معجزة الكبش العظيم
قال تعالى: { فلما أسلما وتلّه للجبين* وناديناه أن يا ابراهيم* قد صدّقت الرؤيا, انا كذلك نجزي المحسنين* ان هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم} الصافات 103-107.
كان ابراهيم عليه السلام قد كبر ونالت منه الشيخوخة منالها ولم ينجب أبناء, وكان يدعو ربه دائما أن يرزقه الولد فأحست سارة برغبته هذه فقالت له: يا ابراهيم, اني عاقر, وأحب أن يرزقك الله بولد ولذلك فانني سأهب لك جاريتي هاجر لكي تتزوّجها, فقد يرزقك الله بل ويرزقنا جميعا منها ولدا تقرّ به أعيننا!! صمت ابراهيم قليلا وحذر سارة من الغيرة اذا أتمّ هذا الأمر,فقالت سارة في ثقة واطمئنان تعودان الى عاطفة وحنان متدفقين منها وهي أنثى شأنها شأن حواء على وجه الأرض, تحكم الأمور وتغلبها على الأرحج بعاطفتها, قالت: لا تخف يا ابراهيم, لا تخف.
تزوّج ابراهيم عليه السلام من هاجر التي وهبتها له سارة ومرّت أيام جميلة سعيدة فحملت هاجر وولدت لابراهيم عليه السلام ولدا جميلا وضيئا أسمّاه اسماعيل.
وجاء اسماعيل بفرحة كبيرة دخلت على نفس ابراهيم عليه السلام فأحب ابراهيم عليه السلام اسماعيل حبا كثيرا, فكم من مرّة حمله وداعبه, وأحبه حبا كثيرا.
واستمرّت الأحوال في البيت النبوي الكبير هانئة سعيدة بوليدهم الصغير, فأبو الأنبياء سعيد غاية السعادة يشكر ربه ليل نهار ويسبّح بحمده على ما أفاء عليه من نعمة الولد وهو في هذا السن المتقدم.
وفجأة دوت في البيت النبوي الكبير مفاجأة كان مصدرها السيّدة سارة, فقد خرجت الأنوثة لطبيعتها تعبّر عما يجيش في صدرها دون تكلف, دبّت الغيرة في نفس الأنثى سارة وهي شأنه شأن بنات جنسها لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها ولا أن تغيّر فطرة النساء وبنات حوّاء, جاهدت نفسها وكظمت غيظها, وحاولت أن تفعل شيئا, كانت تعلم أن هذا الأمر سيزعج ابراهيم عليه السلام ولكن نفسها لم تقاوم جبروت الغيرة, اقتربت من ابراهيم قليلا وتهاوت الدموع من عينيها قطرات وقالت في صوت متهدج: يا ابراهيم؛ اني لا أستطيع أن أساكن هاجر وابنها بعد اليوم, فانظر لنفسك ولها أمرا.
صمتت سارة وقد انتابها حزن شديد من أجل خليل الله الذي شاركها الصمت أيضا, نعم لا تستطيع سارة أن تكبح جماح الغيرة, وهذا ما كان يخشاه ابراهيم.
ظنّ ابراهيم عليه السلام في البداية أن الأمر بضع خطوات وينتهي الأمر بمسكن جديد قريب لهاجر وابنها, ولكن سارة ذهبت مذهبا بعيدا, قالت: انني لا أريد أن تسكن هاجر بلدا أسكنه..
هكذا لم تستطع الصبر على مجرد وجودهما بالقرب من ابراهيم فيراهما بين الحين والآخر عن قرب.
انصرفت مشيئة الله أن يكون هذا قول سارة, وحاول ابراهيم أن يترضى سارة على هاجر وولدها اسماعيل, ولكنها أبت وأصرّت, فوجد أن لا مناص من أن يباعد بينهما.
اصطحب ابراهيم هاجر وولده اسماعيل, وخرج بهما قاصدا مكانا يؤويهما فيه, وسار ما شاء الله له أن يسير, فترك فلسطين, وقصد جهة الجنوب, ضاربا في صحراء الحجاز, كان ذلك على ما يبدو بوحي خفي, فكان يمشي طوال النهار ولا يستقر في مكان الا اذا أحس بتعب واحتاج للراحة أو أحس بجوع أو عطش, ثم يستأنف المسير بهاجر وولده الطفل الصغير, وظلّ على هذه الحال الى أن استقرّ به المقام بوادي مكة, ومكان ملتقى الطرق للقادم والذاهب من الشام الى اليمن وبالعكس, وفي هذا الوادي أقام ابراهيم لاسرته الصغيرة الأم ووليدها خيمة, يأويان اليها اذا جنّ عليهما الليل ويضعان فيها ما معهما من زاد ومتاع.
التفتت هاجر يمينا ونظرت يسارا, وكان ما تراه لا يوحي بشيء مريح, فهو مكان مجدب مقفر, فلم تقع عيناها على زرع ولا ضرع, ولا ماء, ولا حتى بشر يؤنسون وحدتها.
ساد الصمت برهة من الزمن هاجر تنظر هنا وهناك, وقد أصابتها حيرة ودهشة, فكيف اختار ابراهيم هذا المكان المقفر الموحش مستقرّا لاسرته, لا بد وأنه موحى اليه أو مأمور بذلك, وخطر ببالها أن تسأله حتى تجد تأكيد لخواطره وشكوكها, فرفعت رأسها وقالت في شغف: أأمرك ربك أن تتركنا هنا يا ابراهيم؟!.
قال ابراهيم: نعم.
قالت هاجر المؤمنة بربها على الفور: اذن توكل على الله, فقد وكلتنا الى من لايضيع عنده الرجاء.
وفي وداع يحمل هيبة الايمان وجبروت المشاعر, ترك ابراهيم عليه السلام هاجر ووليدها الطفل الصغير اسماعيل ومضى وأحسب أن الدموع قد احتبست في حدقات هؤلاء البشر منها دموع طفل أنهكه السفر, وأقلقه أم ّ تضطرب أمام تجربة لم تعهدها من قبل.
ومضى ابراهيم منصرفا عن زوجته وابنه, فلما صار على مرمى النظر منهما, رفع رأسه وابتهل في دعاء خاشع فقال:
{ ربنا اني أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} ابراهيم 37.
وكانت نظرة الوداع من ابراهيم بعد هذا الدعاء المبارك, الذي يعد دعاء لبزمان, ومضى ابراهيم عليه السلام عائدا الى بلاد الشام.
مرّت الايام وعطش اسماعيل وبكى وهرولت هاجر من وادي المروة الى جبل الصفا وكررت, وتفجّر بئر زمزم, وشرب اسماعيل من عين عذبة خصصت لضيوف الرحمن, ولم تخف هاجر الضيعة فهنا سيبني خليل الله بيت الله.
وكانت عين زمزم التي تفجر ماؤها خير شيء في هذا المكان رغبة المارّة, فنزلوا بها, وأقاموا أوقاتا الى جوارها للاستراحة والاستسقاء.
وراق لاحدى قبائل العرب أن تنزل بجوار وادي مكة, وهي قبيلة جرهم, فاستأذنوا هاجر, فأذنت لهم, فوجدت الى جوارها من تستأنس به, وتطمئن الى جواره. وعمرت مكة بهذه القبيلة وأصبح الوادي عامرا بالناس والابل والماشية والطيور, وتحققت دعوة ابراهيم عليه السلام عندما دعا لها وهو مغادر هذا الوادي قاصدا بلاد الشام وفلسطين التي تسكنها سارة حين دعا ربه قائلا: { فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم وارزقهم من الثمرات}.
وفي بلاد الشام شعر ابراهيم عليه السلام بحنين لرؤية ابنه اسماعيل وزوجته هاجر, وجاء خليل الله ابراهيم ليرى ما فعل الله بوديعته, فوجد عمرانا وناسا وخياما, وحياة تدب في كل مكان, حتى ظن أنه قد ضلّ عن وادي مكة الذي ترك فيه اسماعيل وهاجر بأمر ربه, فقد كان واديا غير ذي زرع, حتى أنه سأل:
أهذا وادي مكة, أهنا تسكن هاجر واسماعيل؟
عرف ابراهيم عليه السلام أنه وادي مكة.
ومضى خليل الرحمن يبحث عن خيمة هاجر وابنه اسماعيل بلهفة ما بعدها لهفة, وشوق ما بعده شوق, لقد كثرت الخيام وتعددت, ولكن خيمة هاجر شهيرة, معروفة لدى العامة في مكة. فأرشده الناس اليها.
نظر ابراهيم الخليل عليه السلام في وجه طفله المشرق, فسرّه سرورا كثيرا, وفرح به فرحا وفرحت هاجر بلقاء زوجها وشكرا الله على ما أولاهما من نعم, وعلى ما حباهما من عطف.
وظلّ هذا حال ابراهيم عليه السلام يأتي الى أسرته الصغيرة الجميلة بين الحين والحين لرؤية اسماعيل وأمه.
يتبع >>>>>>>>